[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص حول التناول السردي للحرب والعنف في سوريا. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]
الروائي السوري إبراهيم العلوش
في مقدمة يوسف ادريس للأعمال الكاملة لغسان كنفاني، يقول إدريس: أول مرة أصدق أن القصة والرواية تخيف الآخرين، وتجعل إسرائيل تنظم كوماندوس في قلب بيروت لتغتال الكاتب غسان كنفاني، أول مرة أؤمن بأن الكتابة تخيف الجيوش!
وفي 9/1/2014 عندما خرجت من منزلي بعد أسبوع من حصار المعارك التي انتصرت فيها داعش واستولت على الرقة، خرجت مذعورًا، فلم يكن لدي في المنزل غير الكتب التي صارت عبئًا علي وعلى أهلي من بعدي، على اعتبار أن داعش تصنف كل الكتب كخطر كبير عليها وعلى دولتها المزعومة.
خرجت إلى مقهى انترنت قريب لأتمكن من معرفة الأخبار ولأستطلع القوى الجديدة التي تتبجح بانتصاراتها الإلهية، لتعلن قيام "دولة الإسلام" على حطام الكافرين والمرتدين من أهل الرقة الذين لا يبايعونها.
وصلت إلى مقهى لأحد معارفي، كنت ارتاده قبل الفتح الداعشي، فوجدت المسلحين الدواعش يملأون فسحة مبلطة أمام المقهى، كانوا يجلسون إلى بعضهم، يشربون الكوكا والبيبسي كولا، ويأكلون الهمبرغر، ويتحدثون عن الرقية الشرعية، وعن نهاية الدنيا واسطورة دابق، وعن التطبب بالقرآن، وعن هلاك الكافرين الوشيك، وذلك قبل أن تنفتح قريحتهم لفتح روما!
لحظتها زايلني الرعب، وآزرتني الكتب بصفحاتها وبحكمتها وبتجارب أبطالها المتحدّين للواقع وللزمن، لقد وجدت نفسي غنيًا مسرف الغنى، ووجدتهم فقراء مدقعي العقول والمخيلات، وكدت أن أقهقه، رغم غطرسة المنتصرين الجدد، وتبجحاتهم واحتكارهم للدين وللدنيا!
قبل ذلك المشهد كنت أشعر بالضعف لأنه ليس لدي بندقية، أو قنبلة أستطيع الدفاع بها عن نفسي، وبعده شعرت بالقوة، لأن مثل هؤلاء الجنود الأشداء، والمنتصرين الذين يغدقون على أنفسهم خيرات الغرب، ويلوكون في افواههم مكرورات التاريخ، لا يمكن أن يمتلكوا الواقع ولا المستقبل أبدًا، هؤلاء مجرد رمم تاريخية تتساقط على البشر، وتقتلهم بجثثها وتخنقهم بروائحها، هؤلاء لا يمتلكون المعرفة، ولا الذوق ولا الفن، ولا القدرة على الخلق، هؤلاء مجرد مستنسخين ومقلدين بائسين لقيم تاريخية باتت بالية!
بين مقولة يوسف ادريس، وبين لحظة التجلي أمام مقهى الانترنت، تتلخص الكثير من القيم، وتتجلى قيمة الإبداع وخطره، الذي كان نظام الأسد يمنعه ويحاول تدجين المبدعين بثلة من المخبرين والإداريين المتثاقفين الذين كان كل همهم هو منع الجديد من الخروج أو أن يعلو فوق وجه الاستبداد البشع.
اليوم وبعد الفوضى الكبيرة والأخطاء الفاحشة لحملة السلاح، تتجلى أهمية الكلمة، وأهمية الإبداع، ومسؤولية خلق الجديد الروائي والفني العميق، رغم كل هذا الهذر، وهذه النميمة، ورغم عشرات ألوف التعليقات والاشاعات والأخبار الكاذبة التي تتدفق عبر الانترنت والتلفزيونات والاذاعات!
النظام افترس البلاد بشبيحته، والإسلامويون المتطرفون افترسوا الدنيا والآخرة، والناس هاموا على وجوههم، هاربين من قلب هذا الجنون التشبيحي، والتكفيري الذي يفتقد أبسط القيم والأخلاق، وينعدم فيه الحس الإنساني تجاه السوريين، إذ لم ترتق الجهات المتلهفة على السلطة حتى إلى درجة معاملة السوريين كحيوانات.. وليس كبشر!
يومًا بعد يوم، تتناقص أهمية البنادق والانفجارات، ولا تبقى غير الكلمة، وغير الفكرة، وغير الحلم، ولن ينتصر إلا التصور الخلّاق والمبدع لمستقبل السوريين.
لن نستطيع أن نوقف هذه الحرب ولن نستطيع لجم مجرمي التعذيب، والتشبيح، والتكفير، مالم نخلق روايتنا لسورية الجديدة، ونجتذب إليها جمهورًا متشوقًا ومتلهفًا لمتابعتها، ولإنجاز حلمها على الأرض، لن نستطيع أن نلم اشلاءنا إلا بحكاية مبدعة، وجذّابة تحمل السوريين على التضحية من أجل أبطالها ومن أجل أحلامها..
حكاياتنا اليوم مستنسخة من الواقع المرّ والقاسي، ولكنها لا ترتقي إلى قمة تستشرف القادم، رواياتنا مملة ومكرورة، منذ أيام اتحاد الكتاب العرب/ سوريا ومخبريه الأمنيين، حكاياتنا اليوم تحتاج إلى مخيلة واسعة تستطيع استيعاب وتجاوز كل ما هو سوريالي ولامعقول في حكايتنا السورية؛ وهذا يتطلب منا مضاعفة الكتابة، واجبار الناس على قراءتها، وذلك بجعلها متوفرة في كل فضاء، وفي كل موقع الكتروني وغير الكتروني، ليست الكتابة عملًا نافلًا ولا تكميليًا للساسة، ولا للعسكر، الكتابة هي ميناء الخلاص ومنصة البناء الجديد لوطن ممزق ويحلم بكلمة سواء بين أهله!!
لن ينتصر أحد إلا السوريون، لن ينتصر إلا عشاق الحرية، والأبطال الذين يتجاوزون هذه الأنوات المتضخمة والجشعة، والمدعية لتمثيل قيم الحرية والكرامة للسوريين، أبطالنا الذين صنعناهم في كتبنا السابقة تجاوزهم الزمن، وتجاوزتهم الأحداث، لقد غيّرت الثورة إحداثيات الزمان، وإحداثيات المكان، صارت قُبَل عشاقنا السابقين باردة ومفتعلة، وما عادت طموحاتهم ترتقي إلى نجمة الحلم المتلألئة في عقول ووجدان السوريين الثائرين، والسوريين المتناثرين في الصحاري وعلى الجبال والبحار وعلى مختلف أنواع الحواجز الحقودة!
يمرُّ الزمان قاسيًا وبلا رحمة ولكن سكاكينه لن تتوقف عن طعننا إلا على أيدي أبطال جدد، وذوي مخيلات جديدة، وبطموح لم ندركه، ولم نستوعبه حتى الآن.. فكيف نتمكن من تمثّله، ومن ثم تجسيده على أرض الواقع قبل السمو عاليًا.. إلى أحلام الشهداء، والمعذبين، والمطاردين، والمهجرين في كل الاتجاهات!
*************
إبراهيم العلوش في سطور:
قاص وروائي سوري من مواليد الرقة عام 1962، مهندس مدني، خريج جامعة حلب 1985. يكتب في المقال في عديد الصحف والمواقع الالكترونية العربية، أحد مؤسسي صحيفة "الحرمل"، الصادرة في مدينة أورفا التركية، ورئيس القسم الثقافي فيها. وكان أن تولى رئاسة تحرير صحيفة "منازل"، التي كانت تصدر في الرقة قبل استيلاء تنظيم داعش الإرهابي على الرقة.
صدر له ثلاث مجموعات قصصية، الأولى بعنوان: "هذا عذب فرات" عام 1994 ، والثانية بعنوان: "الطائر والدرب" عام 1997.
ومجموعته الثالثة الموسومة بـ"البحر الأسود المتوسط"، يغلب عليها جميعًا الهم السياسي النقدي في سوريا، بالإضافة إلى أنها تنقل صورة عن بيئة الفرات والتحولات الاجتماعية التي طرأت عليها في عقد الثمانينيات الصاخب بأحداثه وتحولاته. وهي صادرة عن دار الفرقد للنشر ، دمشق 2010.
نال إبراهيم العلوش جائزة "البتاني" للقصة القصيرة، الرقة 1989.
وفي العام 2001 صدرت روايته "وجه الصباح" في طبعتها الأولى عن وزارة الثقافة بدمشق. وصدرت عن دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر في دمشق طبعة ثانية عام2007.
وعن أجواء الرواية يقول العلوش: "هي جزء من احتقان لفَّ بلدنا أو شمل بلادنا كاملة، وهي تعبير عن القلق الوجودي بمعنى الوجودية الحياتية أمام تقاطعات كبيرة خضعت لها البلاد، وخضعت لها الأيديولوجيات التي كانت قائمة، إنها رواية قلق ذاتي، وربما رواية خوف عام، وفيها سيرة للمكان من وجهة نظر هذا القلق والخوف المحتقن، وكانت كتابة هذه الرواية تحدٍ مع الذات، ومع الظرف السائد، ومع التقنيات التي كنت أمتلكها بالقص لتحويرها للسرد الروائي، حيث ظلَّت الرواية تنوس بين تقنية القصة القصيرة وكثافتها، ومباشرتها، وبين تقنية الرواية بامتدادها السردي والذهني الطويل".